martes, 31 de marzo de 2015

معتوق أبو راوي وقدر البوح باللون



الهادي حقيق


    أكاد أجزم أن الفنان التشكيلي الليبي معتوق أبو راوي أصبح متمكّنا ومتمرّسا لدرجة أنه لم يعد يحتاج سوى لرفع الريشة ووضعها على القماشة البيضاء لتنهال الفكرة والروح والإبداع .. فالرجل يبدو وكمن يختزل مئات اللوحات بين أصابعه ! .. والآلاف في عقله !!.. وعشرات الآلاف بين جوانحه !!! ..


الرجل عاشق ومبدع ومتمكّن من رؤاه ومن أدواته الفنية .. ولذا فإنه يبدو على الدوام على بعد ريشة ولون وبضع ضربات من إبداع متقن وجميل ومتجدّد ..ويبدو لي أن السرّ في كل هذا العطاء والتنوّع والتجدّد عند فناننا المبهر انه يرسم مباشرة من الروح .. من هناك .. حيث النار طريّ كما يقول الشاعر النوّاب ..
ولا غرو ان معارضه الأخيرة (الجنوب والحلم) و(قوارب الموت) و (الربيع العربي) في غرناطة وسالامنكا بأسبانيا وكاركاس بفنزويلا وبيونس آيرس بالارجنيتن وغيرها قد لاقت ترحيبا عالميا كبيرا .. وكان قبل ذلك قد شارك في العديد من المواعيد التشكيليّة الهامة في طرابلس وبنغازي ومصراتة بليبيا .. وفي تونس والجزائر والمغرب .. وفي سوريا وقطر .. وفي مالطا وأسبانيا وبلجيكا والنمسا .
والمبدع معتوق أبوراوي من مواليد القره بوللي بليبيا عام 1967 .. وقد درس وتخرّج ودرّس كمعيد في كلية الفنون والإعلام الليبية حتى العام 2001 .
من بعد ذلك وفي تجربة علمية فنيّة ثريّة توجّه المبدع أبوراوي إلى أسبانيا ليتوّج بحثه ودراسته ومعايشته الفنيّة بها بالحصول على درجة الدكتوراة عام 2012 من جامعة غرناطة الأسبانية وليعمل كأستاذ للفنون التشكيليّة بأسبانيا .. التي يعيش بها .. بالإضافة إلى عمله كأستاذ بكليّة الفنون قسم الفنون الجميلة بطرابلس ليبيا .
ويتميّز أسلوب ابوراوي بالعاطفة الجيّاشة وبالجرأة والتجريب والتحرّر من كافة القيود الكلاسيكية في عالم الرسم .. لايحكمه سوى بحر القره بوللي بإتساعه وعمقه وموجه وهديره وزبده .. روح حرّة ما أن تدخل مرسمها الخاص حتى تصيغ الحياة وكل شخوصها وتفاصيلها وفق رؤيتها وحلمها وإحساسها .. وعشقها !! ..


ويحسب للمبدع معتوق أبوراوي أنه من القلّة من فناني البحر المتوسّط والعالم الذين تفاعلوا بإحساس صادق .. حزين وغاضب .. مع الكوارث المتتالية لغرق أفواج المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا .. الحدث المؤلم الجلل الذي سيسم عصرنا هذا لاحقا بالنفاق والأنانية والجشع والهمجية .. فكان أن خصص العديد من اللوحات للتعبير عن هذه المأساة الإنسانية الصارخة .. ومنها جاء معرضه (تأبينية قوارب الموت) ..
هذه بعض الخواطر التي عنّت لي عند مشاهدتي لبعض أعمال المبدع أبوراوي .. كتبتها كتفاعل مباشر وآني وعفوي..



لوحة "المفكّر في حالة حبّ / El pensador en una escena de amor "

في هذه لوحة والتي رسمها  معتوق في أسبانيا عام 2002 ، كل ما احتاج اليه مبدعنا .. كرسيّ بقوائم حديدية .. وكتاب ما .. وجالس .. ووردة .. ولم يستهلك من الالوان الأساسية سوى لونين أو ثلاثة .. هذا كل ما لزم الأمر .. لكنه في المقابل أشعل كل نيران الكون في حنايا اللوحة لينقل حالة خاصة من الوجد والهيام والإستغراق .. وليثير في إستكانة إراحة رأس الجالس على مسند الكرسي كل ذكريات الحلم والعشق والرغبة والحزن والحنان والشبق والرقّة .. وكأن الكتاب الذي يتصفّحه الجالس بين يديه قد حوى كل صور الدنيا .. وكل حكايا المحبة والشوق والإنتظار ..
لم يسبق لي أن نظرت إلى لوحة كان فيها اللون الأخضر بمثل هذه الحمرة الفاقعة .. وكأنما مهمة د. معتوق الجديدة باتت تتجه صوب تغيير إيحاءات الألوان ودلالاتها وتأثيرها !! .. مهمة وإن بدت مستحيلة إلا أنها تتحقق عندما يبهجنا العزيز معتوق بالرسم بألوان الروح .. وصدق الروح .. وجمال الروح !! ..


في هذه اللوحة يطالعنا مهرجان ألوان لن يتكرّر .. فرسّامنا مترع بالحياة وبالفرحة .. وبالألوان !!.. كطفل صغير يشخبط بالفرشاة يمنى ويسرى بعد أن يغمسها في قلبه المتجدد اللون كل ثانية!! .. في ذات اللحظة قد يشي سواد الطفل ـ المهرج ـ الإنسان بالحزن الذي يتفتّح من قلب برعم الفرح والسعادة ..
أنحن في سيرك سماوي ؟ .. أم نحن على قارعة مدينة حديثة ؟ .. أم نحن في عرض مسرحي ضخم ؟ .. أم لعلنا على اليمّ وقد تحققت معجزة السير فوق الماء.. أتلك الضربات على القارعة لسيدات الفنّ والجمال والزهو والرقص ؟ .. أم انها لعرائس البحر وهي تشهد العرض – المعجزة ..
حياة صاخبة اللون على القارعة .. وأخرى على إمتداد الطريق .. وثالثة على إنعكاس حبات المطر أو المياه عن الطريق ..
أهذه درّاجة تسابق دوران عجلاتها ؟ .. أم أنها سنوات العمر والحياة وهي تتطاير كتتابع عجلات الأطفال المزركشة بالأصفر المخضرّ والأبيض الطفوليّ ؟ .. ولكن .. كيف صار الدرّاج بعضا من الدرّاجة ؟ .. وكيف أتشح بالسواد وسط هذه الفرقعة اللونية المزانة بالأزرق والبنفسجي والأحمر والسماوي ونثرات البياض الملائكي ؟..
هل تستمرّ الحياة ؟ .. هل ينفضّ السيرك ؟ .. هل تقفل الأسواق .. هل ينتهي هذا العرض المسرحي الملون .. المتغيّر .. المتحرّك .. المجنون ؟ ..والبهلوان .. الطفل .. الشاب .. الدرّاج .. هل هو فرِح ؟ .. هل هو حزين ؟ .. هل هو موجود أصلا !! ..





في هذه اللوحة المبدع  معتوق لم يعد يرضيه رسم "لقطة ثابتة" أو "صورة محنّطة" أو "برهة زمنية واحدة" .. هو يريد أن يقارب التصوير المتحرّك .. فتراه وكأنه يريد خلخلة كل شيء .. وهزّ كل شيء .. وتحريك كل شيء لإطالة زمن المنظور لأكثر من برهة ولحظة ولقطة .. وذلك حتى يتمكن من قصّ كل الحكاية لا جزءا منها فحسب .. وحتى يستطيع أن ينقل للمشاهد كافة الأحاسيس والمشاعر التي تملّكته وهو يرسمها في عقله أولا .. وتلك التي تملّكته هو يوزّع ضربات فرشاته بثقة ووضوح ليصل للوحة يراها أمامه متكاملة غير منقوصة قبيل حتى أن يدخل مرسمه أو أن يبدأ الرسم !! ..



 
هو لم يعد يرضى بدور "المصوّر" أو "المحنّط" أو "القابض على جزء من الثانية" هو يريد أن يلعب دور "المخرج" و"القصّاص" و"الحكواتي" و"الشاعر" .. يريد أن يرسم "اللوحة ـ الشريط" ، و"اللوحة ـ الرواية" و"اللوحة ــ القصيدة" و"اللوحة ـ الخطاب والموقف" ..

في هذه اللوحة الجواد لم يعد يعنيه القفز "الرشيق ، الأنيق" من فوق الحاجز .. ولم يعد يكترث لتصفيق تلك الجماهير المزدحمة والمتحلّقة في الميدان .. ولا تعليق مذيع النقل .. ولا أرباح مالكه .. ولا فزع شركات التأمين على كسور قد تصيبه .. الجواد أمامه طريق لابدّ أن يقطعها .. كثرت الحواجز أم قلّت .. علت أو انخفضت !! ..


يوهم الجواد الفارس أنه يستجيب لحركات يديه وقدميه لدفعه إلى القفز فيرتفع قليلا ثم فجأة يكتسح الحاجز بقدميه وفخديه وصدره العريض وقوة إندفاعه لا يلوي على شيء .. كل ما في عقله الطريق .. والمسير .. والوصول !! ..

الحاجز بمكوناته لم يعد أمام إرادة هذه الفرس الجموح خشبا مستقيما صلبا .. وإنما بات كالحبال المرنة التي سرعان ماتنحّت عن طريق هذه المصمّمة على الإجتياز دون أي إكتراث لقانون اللعبة وشروطها .. حتى ليبدو أحيانا أنها قد مرّت من خلاله وعبره ! ..

ويتلاعب أبو راوي بالفارس ليحكي أكثر من سيناريو .. وليخرج من فنّ الرسم إلى الفنّ المرئي المتحرّك .. فنحن نلحظ الفارس وهو ينحني للأمام كما هي العادة في قفز الحواجز .. ولكنه أيضا موجودا وقد إنزاح للخلف وكأنه قد إنزلق عن ظهر الجواد للخلف لقوة إندفاع الجواد .. بل ولربما قال ثالث بأنه يكاد يراه وهو في ثانية متحركة تالية وهو يكاد أن يسقط بالخلف عن آخر ظهر الجواد !! ..

يستخدم الفنان ألوانا متجانسة متداخلة تخفّ حتى تكاد تشفّ حينا .. وتدكن حتى درجاتها القصوى حينا آخر ، ويظهر كل ما يحتاجه لإبراز قوة الفرس .. غلظة رقبتها وعرض صدرها ووركها وعضلات وجهها فقط ليقول رسالة واثقة : لا حائل بين هذه والوصول ! ..

هذه بعض الملاحظات السريعة التي عنّت على بالي وانا أشاهد "الشريط المرئي" لمعتوق حيث الفارس وقبيل الوصول للحاجز بقليل يحث فرسه على القفز بصوت خفيض وبحركات محسوبة باليد القابضة على الصروع وبهزّ القدمين على جنبيها .. وكيف أنه واستعدادا لمسايرة قفزها ثنى جدعه للأمام .. ثم إنني أرى الفرس وهي تصمّم على الإقتحام والخروج من هذه اللعبة الركيكة وقوانينها .. ومع الإقتراب ما بين الجواد والعقبة .. وبمجرد أن يلامس الحاجز جسد الفرس وعرقها ونبض قلبها الخافق في كل اعضائها يذوب ويتلاشى الحاجز لتمرّ هي كالرعد .. كالبرق .. كالسيل .. كالطوفان لتواصل الرحلة والسبيل .. ألحظ أحيانا الفارس ، من قوة اختراقها للحاجز ، يفلت الزمام من يديه .. ويترنّح للخلف ليسقط كما سقط الحاجز تماما .. ولتمضي الفرس في طريقها وسط دهشات المشاهدين !! ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الهادي حقيق 
طرابلس 2017