لم
أتفاجأ كثيرا وأنا أقف متأملا لوحات الفنان (معتوق أبو راوي) رغم ما تشي به من
لوعة وحزن وحرقة وألم، فالألوان القاتمة، والوجوه المطموسة الملامح، والشخوص
المكتئبة البائسة، والثيران الهائجة، والكلاب البرية، والذئاب الجائعة، كل ذلك،
وغيره كثير، لا يمكن له أن يشي بغير هذه المشاعر المكبوتة في قلب الفنان، حيث
عوالم من الأحاسيس تتشكل في وجدانه معبرة عن صورة بائسة حزينة ترتسم أمامها، لكن
هذه العوالم لا تلبث أن تتشظى وتتناثر لتتشكل من جديد بهيئة طارفة، متجاوزة شكلها
التليد، فتنطق ألوانها وظلالها بنغمات معبرة عن صورة كئيبة أخرى ومشهد غائم جديد
لم يلبث أن ارتسم أمامها، وهكذا دواليك، تستمر هذه الدراما في حركة بندولية دؤوبة،
تعبر عن ديمومة الحياة، وهيجان مشاعر الفنان، وهذا كله يعكس حالة الواقع البشري
المعيش الذي تتماهى معه ذات الفنان، ويرسم صورة الفوضى والاضطراب التي تمر بها
الإنسانية قاطبة، تلك الإنسانية المتموقعة داخل قلب الفنان، المتمركزة وسط فسيفساء
فنه، الملهمة لوجدانه.


لقد
شكل حضور المرأة جزءا بالغ الأهمية في لوحات الفنان، فتمثلت فيها المرأة بفرحها
وحزنها، بدمعتها وابتسامتها، تكتنفها ألوان غامضة مثلها حينا، وتزينها ألوان
مبتهجة كالفرح حينا آخر؛ فالمرأة حلم يقترب ليبتعد، يتراءى ليتوارى، نتحسسه ولا
نتلمسه، يرتمي بين أيدينا ليتفلت من بين أصابعنا، يقفز فجأة إلى قلوبنا، ليسكن
غيلة في أخيلتنا، تراه أعيننا ولا تدركه أبصارنا، تتعبنا مطاردتها، وتسعدنا
زئبقيتها.
ولذلك
كله فقد رأيت (معتوق أبو راوي) يصدح كطائر جميل بألوانه، رشيق بحركاته، بما في
داخله من نبيل الأحاسيس وجميل المشاعر في كثير من الأنحاء والبلدان، فتارة يتنقل
بين المدن الإسبانية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها الساحر إلى غربها الفاتن،
وتارة يشد الرحال إلى بلجيكا وهولندا، وحينا آخر يغادر إلى فنزويلا والأرجنتين،،،
وهكذا، في محاولة منه لإيصال صوته المنبعث من تلك اللوحات الحزينة تارة والمتفائلة
تارة أخرى، إلى أكبر عدد من قاطني هذه البسيطة، وإني لأراه يصنع لنفسه اسما، ولفنه
لونا، ولأسلوبه حضورا كبيرا.
لم
أتفاجأ ولم أر تناقضا بين شخصية الفنان المرحة وهذه اللوحات المطلة علينا بوجهها
الشاحب ودلالاتها الحزينة، فهذه طبيعة الفنان التي ينبغي أن يكون عليها، حب
للحياة، عشق للوجود، ولع بمباهج الدنيا، وفي ذات الوقت تماهٍ مع المجتمع، تفاعل مع
المجريات، انصهار في بوثقة الأحداث، وهذا من شأنه أن ينتج لنا شخصية متكاملة، تعيش
الواقع الخارجي ولا تنفصم عنه، وتقدم له وصفات نابعة من عالم الفنان الداخلي، تحمل
الشفاء، وترسم سبيل الفرح والهناء، وبمثل هذا وغيره تفوق الفنان (معتوق أبو راوي)
وهو يروي لنا قصته المترنحة بين الواقع والأمل.
واليوم
تقف الملحقية الثقافية بالسفارة الليبية بمدريد بإجلال واحترام لتهنئ فنانها
الشاب، وتعرب له عن حبورها واغتباطها، وسرورها وامتنانها؛ فقد استطاع أن يقدم بفنه
صورة مشرقة عن بلاده ليبيا، تعكس طموح شبابها، وعزيمة رجالها، وتطلع أبنائها، كما
استطاع أن يصل بفنه بين ضفتي المتوسط، بل أن يوائم بين تاريخين: أحدهما تستوعبه
الذاكرة، والآخر لا تزال صورته أمامنا ماثلة.
الدكتور
خالد العيساوي
الملحق
الثقافي بالسفارة الليبية بمدريد
الجمعة:
31/10/2014م