sábado, 2 de septiembre de 2017

غصائص الحلم





لم أتفاجأ كثيرا وأنا أقف متأملا لوحات الفنان (معتوق أبو راوي) رغم ما تشي به من لوعة وحزن وحرقة وألم، فالألوان القاتمة، والوجوه المطموسة الملامح، والشخوص المكتئبة البائسة، والثيران الهائجة، والكلاب البرية، والذئاب الجائعة، كل ذلك، وغيره كثير، لا يمكن له أن يشي بغير هذه المشاعر المكبوتة في قلب الفنان، حيث عوالم من الأحاسيس تتشكل في وجدانه معبرة عن صورة بائسة حزينة ترتسم أمامها، لكن هذه العوالم لا تلبث أن تتشظى وتتناثر لتتشكل من جديد بهيئة طارفة، متجاوزة شكلها التليد، فتنطق ألوانها وظلالها بنغمات معبرة عن صورة كئيبة أخرى ومشهد غائم جديد لم يلبث أن ارتسم أمامها، وهكذا دواليك، تستمر هذه الدراما في حركة بندولية دؤوبة، تعبر عن ديمومة الحياة، وهيجان مشاعر الفنان، وهذا كله يعكس حالة الواقع البشري المعيش الذي تتماهى معه ذات الفنان، ويرسم صورة الفوضى والاضطراب التي تمر بها الإنسانية قاطبة، تلك الإنسانية المتموقعة داخل قلب الفنان، المتمركزة وسط فسيفساء فنه، الملهمة لوجدانه.
فهذه الأحداث التي تعيشها البشرية اليوم من ثورات، وهجرات، وتيه، وحلم تكتنفه الغصائص، وتصادره آلات الرعب ومعاول الخوف وغياهب المجهول، هذه الأحداث بما تحمله من كثير من المآسي والأحزان واللوعات، لا بد لها أن تترك انطباعا بالغا في نفس الفنان، ينعكس تعبيرا صارخا في لوحاته من خلال الألوان الغامقة المسيطرة على رسوماته، ومن خلال الكآبة التي تطل علينا بل تكاد تلامسنا ونحن نقف مأسورين مشدودين مندهشين إزاء ما نرى في هذه اللوحات، بل إن كثيرا من شخوص الفنان تحمل في طياتها دلالات من هذا النوع، فذلك الرجل المطموس الملامح الذي يكسو اللون الأحمر وجهه وكل جسده، وتلك المرأة البادي الحزن على وجهها، المغمضة عينيها في لحظة مناجاة مع الذات، أو لنقل في لحظة شكوى ترفعها إلى السماء حيث تشرئب بعنقها، أو تلك الكلاب الواقفة على شطآن البحر تودع بكل حزن قوارب الموت الفاقدة لاتجاهاتها، عادة، قبل أن تصل إلى الشاطئ الجنوبي من المتوسط... كل تلك الشخوص تعكس الحالة التي يشعر بها الفنان، وكأني به يصرخ، بل يعوي كما الذئاب، حزنا وألما، ينتابني هذا الشعور وأنا أرى هاتيك الكلاب وهي تودع بأبصارها ونظراتها الثكلى تلك القوارب التي ينساب اللون الأحمر  القاتم الحزين من جنباتها، في إشارة واضحة إلى ما ينتظر، غالبا، هؤلاء المتشبثين بآمال بل بأوهام هذه القوارب المتجهة نحو غيابات الموت، ومسالك الهلاك، في منظر بائس ينعى الحلم، ويؤبن الإنسان، ويسدل ستائر أحداث أليمة، في مشاهد من تراجيديا حزينة.
قلت إني لم أتفاجأ بكل ذلك، لأني عرفت في الفنان (معتوق أبو راوي) وجها غير هذا الوجه، وإنسانا غير هذا الإنسان، فقد عرفته عندما قدم للدراسة في إسبانيا، باحثا عن مصادر الإلهام ومواطن الإبداع، حيث استقر به المقام أولا في مدينة سلمنكة، تلك المدينة الضاربة في التاريخ، ثم في مدينة غرناطة، تلك المدينة التاريخ، وبين هاتين المدينتين كانت رحلة شاقة، وتيه طال، من أجل البحث عن موطن يصافح فيه الفنان ذاته، ويعانق في جنباته روحه، ويصغي فيه إلى قلبه، وكأني به يتلقى في نهاية المطاف أمرا من السماء يقول له: أيها الفنان: مكانك هنا في غرناطة، فهنا بنو الأحمر يطلون علينا من نوافذ الحمراء المنيفة، وهنا كنائس تطاول بنيانها تدق أجراسها ليل نهار، وهنا معابد رحبة يقطنها الهاربون إلى الله، بل هنا الإبداع، وهنا الإلهام، وهنا الفن، وهنا العشق، وهنا الثقافة، وهنا التاريخ، وهنا الحلم، وهنا السحر أيضا... لقد عرفته شخصا محبا للحياة، عاشقا للون والريشة والكلمة والفكاهة، بل عاشقا للمغامرة أيضا، ساعيا وراءها وهو يحمل في داخنتحسسه ولا نتلمسهله رسالة للعالم أجمع، مفادها أن الحياة جميلة تستحق أن تعاش.
لقد شكل حضور المرأة جزءا بالغ الأهمية في لوحات الفنان، فتمثلت فيها المرأة بفرحها وحزنها، بدمعتها وابتسامتها، تكتنفها ألوان غامضة مثلها حينا، وتزينها ألوان مبتهجة كالفرح حينا آخر؛ فالمرأة حلم يقترب ليبتعد، يتراءى ليتوارى، نتحسسه ولا نتلمسه، يرتمي بين أيدينا ليتفلت من بين أصابعنا، يقفز فجأة إلى قلوبنا، ليسكن غيلة في أخيلتنا، تراه أعيننا ولا تدركه أبصارنا، تتعبنا مطاردتها، وتسعدنا زئبقيتها.
ولذلك كله فقد رأيت (معتوق أبو راوي) يصدح كطائر جميل بألوانه، رشيق بحركاته، بما في داخله من نبيل الأحاسيس وجميل المشاعر في كثير من الأنحاء والبلدان، فتارة يتنقل بين المدن الإسبانية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها الساحر إلى غربها الفاتن، وتارة يشد الرحال إلى بلجيكا وهولندا، وحينا آخر يغادر إلى فنزويلا والأرجنتين،،، وهكذا، في محاولة منه لإيصال صوته المنبعث من تلك اللوحات الحزينة تارة والمتفائلة تارة أخرى، إلى أكبر عدد من قاطني هذه البسيطة، وإني لأراه يصنع لنفسه اسما، ولفنه لونا، ولأسلوبه حضورا كبيرا.

لم أتفاجأ ولم أر تناقضا بين شخصية الفنان المرحة وهذه اللوحات المطلة علينا بوجهها الشاحب ودلالاتها الحزينة، فهذه طبيعة الفنان التي ينبغي أن يكون عليها، حب للحياة، عشق للوجود، ولع بمباهج الدنيا، وفي ذات الوقت تماهٍ مع المجتمع، تفاعل مع المجريات، انصهار في بوثقة الأحداث، وهذا من شأنه أن ينتج لنا شخصية متكاملة، تعيش الواقع الخارجي ولا تنفصم عنه، وتقدم له وصفات نابعة من عالم الفنان الداخلي، تحمل الشفاء، وترسم سبيل الفرح والهناء، وبمثل هذا وغيره تفوق الفنان (معتوق أبو راوي) وهو يروي لنا قصته المترنحة بين الواقع والأمل.
واليوم تقف الملحقية الثقافية بالسفارة الليبية بمدريد بإجلال واحترام لتهنئ فنانها الشاب، وتعرب له عن حبورها واغتباطها، وسرورها وامتنانها؛ فقد استطاع أن يقدم بفنه صورة مشرقة عن بلاده ليبيا، تعكس طموح شبابها، وعزيمة رجالها، وتطلع أبنائها، كما استطاع أن يصل بفنه بين ضفتي المتوسط، بل أن يوائم بين تاريخين: أحدهما تستوعبه الذاكرة، والآخر لا تزال صورته أمامنا ماثلة.



الدكتور خالد العيساوي
الملحق الثقافي بالسفارة الليبية بمدريد
الجمعة: 31/10/2014م