طيف من الشهداء طار فوق أسلاك تشدّه إلى عالم الواقع الأرضيّ البائس، فالشهيد هنا أو هناك لا يعنيه أن يتخلّى عما قام به من تضحية وفداء من أجل أهله وناسه، بل يظلّ يقيم في أرضهم وفوق سمائهم، وإن لم يك محسوساً إلا في عالم من الرؤى والخيال، لكنه خيال لكأنه الواقع، ضمن نسيج اللوحة، وواقع لكأنه الخيال، ضمن لاوعي الفنان.
يخطّ الفنان الليبيّ معتوق أبو راوي، بالشكل والفورم واللون وزاوية النظر والكتلة وأيّ عناصر فنية باللوحة المشتهاة، عالماً موازياً لتفاصيل الواقع: شاهدان على القتيل، زهرة عند برواز القتيل يتأمّل فيها القتيل نفسه، روح صاعدة كالدخان لترسم شكل القتيل، القتيل وهو يمسك ناقة الموت في صراع لا ينتهي لصالحه أبداً، القتيل وهو يرتقي نحو السماء في طبق من نار فوق بحر الظنون، القتيل بعين من زجاج وعين من نار، ليرى ما قد ضحّى من أجله ولم يتمم، حيث لم يقدّر الواقع فعلته مما أثار الرعب فيه
تحوّلات شتّى يعمد الفنان إلى تبيانها في لوحاته، التي تدور حول تجليات الشهيد في واقع الأمل: القتيل على شكل حصان وهو ينصت إلى موسيقات الموت، القتيل وهو يحلم بحبيبته على شكل زهرة عبّاد شمس صفراء يانعة مبهرة، القتيل وقلبه من نار على حبّ لم يعشه، أو تُرى حيوانات تتطاول أمام عينَي القتيل بعد الموت وأخرى مستريحة.
عوالم متباينة أمام وعي الفنان، يرسمها في حنين إلى تبجيل حياة الشهيد، تلك الحياة التي مضت، لكنها لا تزال عند الفنان حيّةً ماثلة: القتيل مربوط بأسلاك ما بين الموت والسماء، فلا يصل إلى أعلى ولا ينزل إلى الدنيا، القتيل يحمل قرنفلاً على شكل دمه، تحيةً للآخرين من بعده، لربما يستكمل أحدهم ما فعل، أعمدة من الشهداء في صحراء، أو كابوس كلّه شهداء قد قاموا إلى الفعل، ولا فعل بعدما طار
كلّ ما يرسمه الفنان، في هذه المرحلة، حالة من الشفافية التي تغلّف روح شهداء ثورات "الربيع العربي" المغدورة، تلك الثورات التي لعب فيها الجميع، ولم ينج من مؤامراتها غير الشهداء، أولئك الذين قضوا في حبّ بلادهم، بينما راحت بلادهم في فوضى، مع ذلك يحلمون: القتيل وهو يحمي حبيبته من تحته سمكة كرمزٍ للغرام الذي راح، القتيل وقد صار بركة ضوء بينما قلبه زهرة من دماء، القتيل على شكل إنسان من دم وأمامه حيوان الموت، القتيل وهو يلعب مع الفَراش والأزهار، على خلفية وردية، وهو على طبق من رؤاه إلى أن يصل.
لكن ما يثير الأسى في بعض هذه اللوحات، هو حنين الكائن المرتبط بالشهيد برباط السرّة، الأمّ، تلك التي ضحّت، ولا ترى ما تحقّق إلا في برواز فارغ من صورة الابن أو الزوج أو الحفيد وما شابه: القتيل أمام أمه، أو يحضن أمه، وهي الوحيدة التي تقتات على حزنه، القتيل وقد طاف في أنوار المدينة بعد الموت، وأنّى له أن يقوم لتحلو له الدنيا، القتيل وهو حبيس زجاجة الدنيا، ولا يستطيع لها دفعاً، فقد انتهى كالنقطة في آخر السطر
من هنا نرى أن الفنان الليبيّ معتوق أبو راوي يقدّم في لوحاته بياناً تشكيليّاً يقوم على أرضية تشكّلها "ما بعد الحداثة"، تلك التي تعني أن الفنان لم يعد يمثّل مجتمعه فحسب، بل صار يقدّم تيمة إنسانية عالية، ضمن ما يعانيه في مجتمعه من مقوّمات بالية، يتسامى من فوقها ليطرح مستقبلاً لمفردات بلاده في قيم تشكيلية بهية، سواء راح اللون كابياً أو نطّ في أعيننا ساطعاً بهياً يفقأ الوعي بنورانيته وأحلامه
معتوق أبو راوي مثال للفنان الملتزم بمفردات عالمه وتفاصيل واقعه، لكنه ليس من نمط الواقعية القديمة، بل هو كالعدسة التي تظهر هذه المفردات وتلك التفاصيل في بيان تشكيليّ راق معاصر تحتار في جماله العيون. الفنان أبو راوي، أخيراً، هو روح من روح الفنّ، ينبع منه الألم، إذ هو ملح الوجود في الموجو
......http://www.ahram.org.eg/News/202382/146/612299/%D8%A5%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D9%8A%D8%AF-%D9%85%D9%84%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF.aspx..............................
محمد عيد إبراهيم
(شاعر ومترجم مصري)
القاهره 2014