الممارسة التشكيلية لأ بوراوي مقاربات لهواجس وخوالج، تطرح تمردا
للوقائع برؤية ذاتية متفردة
معتوق أبو راوي
من مواليد (1967 )، فنان تشكيلي معاصر ساهم في تطور الحركة التشكيلية داخل ليبيا وخارجها.
سجل بداياته منذ الطفولة حيث كان يتبع موهبته، فانحصرت اهتماماته
داخل ورشات المدرسة والنوادي الثقافية، وبالتالي اكتشف نفسه من خلال محاولاته في
التوغل في عالم التشكيل، ومن وجود من يوجهه في ليبيا.
وفي حوار معه عن انطلاقاته، يصرح أبو راوي "لم تكن بدايات
حقيقية، ولكن كل ما أتذكر هو الرسم على كتب المدرسة والخربشة كل ما أراه يلمع
ويسطع بالبياض . في المدرسة الابتدائية، كنت أتمتع بحصة الرسم حتى صرت في
الإعدادية متخصص في اللوحات التوضيحية الخاصة بالمدرسة ، اختير لي عملان وعلقت في
إدارة المدرسة ، كان لهم وقع كبير ومحفز في حياتي المدرسية المبكرة ، فصرت انعت
بالرسام وتوكل إلي الجداريات والنشاطات الثقافية آنذاك" لاحقا
ومن ثم استفاد أبو راوي كثيراً من احتكاكه بالفنِّ والفنّانين
الأوروبيِّين، علماً أنه يعتبر نفسه محظوظاً بتتلمذه على أيدي فنّانين عراقيين
وسوريين نقلوا تجاربهم الفنيّة إلى ليبيا في وقتٍ كان الليبيون يعانون من كبت
سياسي وجفاف ثقافي، وبالتالي ساهم هؤلاء الفنانون في تطوير موهبته وساعدوه على
دخول كلية الفنون بطرابلس لتدريس الفن التشكيلي، ثم الحصول على منحة لإكمال دراسته
في إسبانيا.
إسبانيا التي جال كثيراً في مدنها كانت إحدى المحطّات المهمَّة في
حياته الفنيّة والإنسانية، حيث وجد في مدينتها التاريخية غرناطة ملاذاً لهواجسه
وأحلامه وأمنياته، ومأخوذاً بسحر هذه المدينة، أثرت فيه وكانت مصدر الهام للفنان
أبو راوي شكِّلت بالنسبة له حالةً تعبيريَةً خاصَّةً، نتج عنها مواقف عديدة مضمنة
في كتاباته وأعماله.
شقّ الفنَّان التشكيلي الليبي معتوق أبو راوي طريقه في عالم الفن
معانقاً عوالم إنسانيَّة رحبة يستقي منها مواضيعه، ولجأ في تجربة التشكيليّة إلى
تراكب مجموعة من الأساليب، بحث من خلالها عن جملة التأثيرات البصريّة والتصويريّة
التابعة للاختلاف وما ينجرّ عنه من تحوّل. يوازي تعبيرية التمشّي إصرارا على دفع
مجال التنويع التقني والبحث عن طرق التأليف بينها إلى أبعد حدود الانفتاح في الفعل.
خلال الاستفسار عن، إذا كانت له مرجعيات فنية، أم هي نتاج خيارات وهواجس بحث عنها من
خلال القماشة؟
يضيف أبو راوي ليثري شغفي، أنه " في الجامعة ازداد اهتمامي
بالتشكيل حيث التحقت بكلية الفنون الجميلة طرابلس التي درست بها، في فتره مهمة آن
ذاك، قدم من عدة دول أوروبية ، ثلة مهمة من الأساتذة الفنانين المميزين العرب ، من
العراق ومصر وسوريا...
ومن خلال هؤلاء تعرفنا ومارسنا الرسم والتلوين والنحت بتجربة جديدة
وحرية في الأساليب لم نكن نعتاد عليها، لذا استقطبت الكلية فنانين شباب موهوبين
أثروا في المشهد البصري الليبي فيما بعد، كانت هذه الفترة من أهم المراحل في حياتي
الفنية وكانت تمثل لي النافذة الحقيقية التي اطلعت وانطلقت من خلالها علي الفضاءات
العالمية الأخرى ، حيث تعرفت علي العالمية واهم فنانيها مثل بيكاسو وقويًّا
والتعبيريين الألمان وغيرهم.
و"يقول أستاذي السوداني " الأمين عثمان" واصفا هذه
المرحلة التقيت معتوق في بداية التسعينيات في القرن المنصرم وهو لا يزال وقتها
طالبا بكلية الفنون والإعلام بجامعة طرابلس ( الفاتح سابقاً)".
فالفن بالنسبة إلى "أبو راوي" نافذةٌ للتعبير الشخصي، وقد
فوجد في رحيله إلى غرناطة الإسبانية مناخاً ملائماً لمقاربة أحلامه وهواجسه، إذ
أنَّه نشأ في بيئة لا تثمن الممارسات التشكيلية. وبعد أن أمضى مسارا طويلا في
البحث والمغامرة قارب خلاله فترة الانتفاضات والثورات العربية ولامست التحول الأهم
في تجربته عند استقراره في اسبانيا للدراسة والعمل في جامعتها. وبذلك يؤكِّد أبو
راوي قوله: "أن تكون فنّاناً تشكيليّاً يعني أنك تحملُ همّاً إنسانيّاً وليس
هموم بقعة جغرافية واحدة".
فلقد واكب أبو راوي هواجس الإنسان البسيط الثائر على واقع أليم، وسعى إلى ترجمة خوالجه الذاتية بواسطة خطاب
يلامس خواطر يومية معاشة، تأخذ منحى
الرمزية لتأسيس رؤية تنفتح على أفق رحب من القراءات.
من خلال الغوص في أعماله أستقي أن أبو راوي يتّبع طرق الفعل من حيث
تواصلها وتفرّعها وتوجّهها نحو المساس بخصائص التعبير الحرّ، وبمقاصد أخرى أكثر
ثراء. إضافة إلى الإحاطة بالتمازج البصري والمادّي، قصد بلوغ نمط تعبيري انطلاقا
من خصوصيات المادة كأداة تعبير عن واقع متبدل، وتحويلها مباشرة لتجربة تقنيّة
يفعّل فيها الفعل الحرّ المباشر والآني. فتتفاعل المواد والألوان بظهور أشكال تحيل
بوضوح إلى معالم تمازج الوسائل التعبيرية، لتطرح سياقا لتعامل خاصّ مع الفضاء،
بإعطاء أهميّة للسلوك الإبداعي وحريّة الفعل." فلم يعد للرسام أن يبرز معرفته،
فهو ليس منتج أوهام ولا عارض خيالات، ولا صانع صور، ولكن عليه أن يتكلّم لغة أخرى،
أن ينشىء معجمها، وهو معجم مرئي على نحو مباشر، ويؤسّس إمكانيات التواصل"
هل أبو راوي فنان تشكيلي باحث عن خوالج ذاتية أم لديه توجه معين يقيد
مسيرته الفنية؟
بالرغم من الوضع القاتم والحريات المنتهكة وجو الريبة والارتباك
السائد في العلاقات، بالرغم من كل ذلك كان هنالك مجموعة من الشباب ينظرون إلى
المستقبل من زاوية مفعمة بالأمل و مليئة بالتطلع إلى التطلع والإنجاز والى حياة
أرحب وآفاق الى الفن أوسع.
"في ذلك الوقت كان الطوق إلى ليبيا جديدة حلما تعجز عنه الأماني
وتنقطع دونه الآمال. ضوء آخر النفق كان مجموعة الشباب التي تملك الحلم بثقة عظيمة
في المستقبل. وكانت الساحة التشكيلية تزخر بمجموعة من التشكيليين المقتدرين
الملهمين للشباب، على قامة، على مصطفى رمضان، على العباني ، على الزويك وغيرهم من
الذين نالوا تعليما في أكاديميات الفنون الأوروبية".
إن الممارسة التي اعتمدها لا يمكن أن تكون واضحة، بقدر ما هي محاولة لانجاز أسلوب
ذاتيّ خاصّ،" فأن نقوم بإحياء رسم لونيّ أو خطيّ أو مجرّد بحث تحضيري، يجب
على الرسام أن يهتم بوسائل البناء، الهيكلة، التوازن والإيقاع التشكيلي للّوحة،
يجب أيضا أن يجد التعبير الخطّي لحركته. فالأمر يتعلّق بإيقاظ الإحساس برؤية
الأشكال تترابط وتتبادل الحركة: الخطوط تتواصل، الألوان تتجاوب، الكتل تتوازن وكلّ
العناصر تأخذ مكانها في حركة ثابتة".
يقارب في أعماله الحلم والواقع، الموت والحياة، الروح والجسد.. جمعها
أبو راوي في ثلاثة كتب: الأول بعنوان "تأبين للمفقودين، الهجرة الإفريقية في
قوارب الموت"، والثاني "تأبين للمفقودين 2، الربيع العربي"،
والثالث هو خلاصة لعمله التشكيلي الذي قدّمه في بوينوس آيرس تحت عنوان
"أحلامي في غرناطة".
كتلك الأعمال التي أنجزها عن
الربيع العربي والروح والموت، وصدمت بعض النقاد بقدرته فيها على مقاربة تلك
التعابير والهواجس، أراد أن يتخطَّى فيها الالتزامات المعهودة واستثمار الثانوي
ليجاوز وينافس العناصر الأساسيَّة في العمل بإحداث حركيَّة في توزيعها، حركة يجادل
فيها الثَّابت المتحرّك محدثة مستويات متواترة، متآلفة من جزئيَّات تتجمَّع
بتنوَّع وتكرار لتشكّل الكلّل فأربكت لحظات الانسجام وأثارت رغبة البحث في فك
رموزها. هو بحث وتفكير في إمكانية قراءة
لتفاعلات غير مكتملة وربطها بمقاربة خوالج أبو راوي لتتدخَّل في سياق
الإنشاء، وفي الإطار يتنزل هذا العمل:
توحي المواد المستعملة في هيئتها إلى مادّة تتشكّل بليونة، تتخطى كل
الفرضيات لتتحوّل استنادا إلى آلية الرسم، إلى لعبة حركيّة بصريّة مرنة فيضع
أشكاله وآثاره بطلاقة وعفوية تتفاعل مع كل
فعل طارئ، في محاورة إنشائية تقترن فيها قصديّة الفعل بعفوية المادّة. وتبقى الآليات
وكيفيّة التأليف بين الجزئيات، مبحثا وهاجسا يساءل ابو راوي باستمرار، ويكوّن في
ذاته حافزا للبحث عن تصوّرات وإحساسات جديدة تخرج بالشكل من رؤيته المعهودة، إلى
صياغة مفتوحة تراهن على حضور مجموعة من العلاقات البصريّة والتشكيليّة.
الأبعاد الرمزية للتشخيص الحر في أعمال أبو راوي:
في محاولة كشف هواجس الفنان من خلال قراءة أعماله، توجهت له بتساؤلات
راودتني:
ليجيب: "ذلك هو السياق الذي تعرفت فيه بمعتوق.كان حينها يمتلك
طموحا أكبر من قدراته كطالب مبتدئ ودارس ولكن الأحلام الكبيرة تخلق المنجزين.
بخصوص تقيم أعمالي، لم أكن واعيا بالقدر الكافي لتقييمها كنت ارسم
بقلق واضح وتعبيرية صاخبة، لم اختر النتائج النهائية للأعمال ولكن التجريب كان أهم
شي أقوم به ، وهو مستمر معي إلي الآن"
.
.
يظلّ الحوار الإنشائي لدى ابوراوي مفتوحا، من خلال اعتماده لمحامل
شاسعة ساهمت بجانب كبير في دعم فكرة التجاوز للمعهود، بفعل ما تصدره من تأثيرات في
طرق الفعل. وبالاستعانة بآليات تشكيلية خاصّة، راهن على تعبيرية التقنيات والتأليف
بينها بإكسابها حضورا فاعلا في نشأة العمل المتشكّل من انفعالات وتصورات أنية تفسح
المجال للفعل الطارئ والعرضي.
تنشأ بين الفنان معتوق وبين الحامل والتقنيات حوار متواصل، يحمل سمة
الاختلاف أحيانا، حيث تسمح عمليّة الجمع بين عدّة آليات بتجاوز الفرضيات، لأداء
الفعل بمفارقته على غرار مسايرة العناصر البنائية و تجاوزها. غير أنّ هذه العناصر
تؤثّر على إرباك تركيب النظام الداخلي
وإخضاعه لسلطة المادّة الموظّفة.
يؤكد ذلك أبوراوي بقوله “مهمتي أن أخرج ماعندي من وجوه بائسة وكادحه
قد امتلئت بها ذاكرتي في سفرياتي. هذه الوجوه قابلتها في مجمل حياتي. وكل
البورتريهات التي رسمت هي في جلها من الخيال ولا تمثل شخص بعينه."
كما جعل من
اللون وسيلة للتعبير ومهمته مقاربة مخيلة الفنان للوحة التي رسمها في ذهنه إلى
السطح ، حيث يسجل حالته في وقت ما، وقليلة هي الأعمال التي نقل فيها شيء موجود أصلا مثل البورتريه والطبيعة
الحية والصامتة: ويضيف، " أحاول إظهار شيء قد يكون مرتبطا بالمحيط الخارجي والظروف المحيطة بي، وأحيانا
أخرى أنقل بقصد أو بغير قصد حالة نفسية
خاصة ليس لها علاقة بالمحيط".
-هل أن ملامسة التقنيات السريعة ( الجافة والمائية) على محامل ممتدة، تعتبر تمرد على الثوابت
التقنية أم هي من باب التنويع لمواكبة الفن التشكيلي المعاصر؟
سلطت عليه الضوء وعن أعماله العديد من الصحف والمجلات، الإذاعات
والقنوات الفضائية، وهذا يعكس حيويته وسعيه إلى تحقيق فرادته. ونظم له مؤخرا متحف الثقافات العالمية بالتعاون مع سفارة
ليبيا معرضا تحت عنوان" من ناسيلي إلى المكسيك "
لقد أفرز انصهار العناصر تعبيريّة لهيئات متعدّدة، ومشاهد مختلفة
كشفا عن التفاعل الحيّ بين عناصر تترابط بتلقائية لتثير جملة من المفاهيم: كمفهوم
التراكب، التجاور، الجزء والوحدة.... فالتجربة تقتضي تغيّر الحركة باستمرار بحثا
عن توحيد المتناقضات بالاعتماد على" الطمس، الإضافة، الاستبدال، الاحتلال
والتركيب".
وسجّل الخط حضوره بتنوّعه وثراءه في جلّ أعماله: إمّا للإحاطة
بالأشكال، أو لتكوين هيكلة الفضاء، وقد أثارت "إيتيان سوريو" أهميّة
الجانب الخطّي ووصفته بالأثر المتروك بواسطة الرّيشة أو القلم أو الفرشاة،
وبالتالي هو تحوّل لفعل من يرسم أو يكتب في حيّز الماديّة، وقد يمزج هذا العنصر
التشكيلي بعناصر أخرى كالمسطحات اللونية أو يكوّن أشكالا مستقلّة، تكون المساحات
اللّونية خلفيّة لها.
يؤكد أبو راوي انطباعاتي بقوله "أستطيع القول بأن لدي تجربة
فنية تشكيلية معاصرة بكل أدواتها وكان
التجريب عنوانها، وفي بعض التجارب الأخيرة
، اركن أحيانا لإبراز بعض القضايا الإنسانية مثل الهجرة الغير شرعيه وثورات الربيع
العربي ، لم يكن ذلك توجه مني لإنجاح العمل دعائيا وبصريا ، ولكن كان لخلق فضاءات
وبعد جمالي آخر بمفردات تكوين. و في اعتقادي بان الفن يتطور موازيا للتقنية،
والفنان بطبعه مجرب ومنفتح علي كل التقنيات".
كانت حاضرة في جماليات الأعمال ويواصل قوله بأنه "منذ القرون
السابقة الفرشاة والقماش والألوان المسحوقة وكانت ظاهرة حداثية، حاضرة في حياة
الفنانين فيما بعد وبقوه، ولكن الحقيقة أنا لست من المنحازين عاطفيا مع التقنيات
الحديثة، بمعنى كنت أجربها بنوع من الحذر، ولأول مرة في تاريخي الفني ، استعملت
مجموعه من الأعمال الآلية وطبعتها بأحجام كبيره علي سطوح مثل القماش أو البلاستيك
الأبيض ، وكان ذلك بإسبانيا 2014 ". قصد الخروج من البوتقة الضيّقة إلي
فضاءات تعبيريّة أوسع تمسّ رياح التغيير والتطوّر. ويعدّ البحث في مثيرات اتّساع
الاحتمالات، دعوة مفتوحة للانخراط في مسألة تستدعى الكثير من الجرأة والانفتاح على
مدارات إبداعية فنيّة، بالولوج فيها وتوخّي المساءلة المستمرة لاكتشاف ملامح
خصوصيّة مغايرة. وسعي لهتك وتجاوز خصائص الرسم المعروفة، وقاربها بأسلوبه الخاص
ليعطي مؤشرات دلالية للتشخيص فقط، ولّدته طبيعة العناصر الغير متجانسة وعلاقات
التركيب المولدة للاختلاف.
ومن المفترض أن
يتساءل الفناَّن باستمرار عن الإضافة التي يمكن أن يقدّمها من خلال ممارسته تبعا
لما يعايشه من قناعات وهواجس، تملي عليه ردود أفعال يترجمها بطريقته الخاصّة كما قاربها أبو راوي في مغامرة تشكيلية متفردة.
د.مها المكشر
المنستير، مارس 2019